باب الحلم والأناة والرفق
قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران (134)].
----------------
في هذه الآية تحريض على التخلق بالإحسان إلى الناس من العفو عنهم وكظم الغيظ، وغير ذلك.________________________________________
قال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}... [الأعراف (199)].
----------------
قال مجاهد: {خذ العفو}، يعني: من أخلاق الناس من غير تجسس. وقوله تعالى: {وأمر بالعرف}، أي المعروف، وكل ما يعرفه الشرع، {وأعرض عن الجاهلين} إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه. قال الشعبي: لما أنزل الله عز وجل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: «إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك».________________________________________
قال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت (34، 35)].
----------------
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم. وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة.________________________________________
قال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى (43)].
----------------
أي: من صبر على الأذى ولم يجاز على السيئة، فإن ذلك من عزم الأمور المشكورة التي أمر الله بها.________________________________________
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة». رواه مسلم.
----------------
الحلم والأناة من صفات العقلاء. وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للأشج. ما جاء في حديث الوفد، أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقربه وأجلسه إلى جانبه. ثم قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تبايعوني على أنفسكم، وقومكم». فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه. نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم. فمن أتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه. قال: «صدقت، إن فيك خصلتين يحبهما الله. الحلم، والأناة»، قال: يا رسول الله، أكانا في أم حدثا، قال: «بل قديم». قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.________________________________________
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله». متفق عليه. ***________________________________________
عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق، ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه». رواه مسلم. ***________________________________________
عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه». رواه مسلم.
----------------
الرفق: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف، وهو الشدة والمشقة، فصاحب الرفق يدرك حاجته أو بعضها، وصاحب العنف لا يدركها، وإن أدركها فبمشقة، وحري أن لا تتم.________________________________________
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». رواه البخاري.
----------------
«السجل» بفتح السين المهملة وإسكان الجيم: وهي الدلو الممتلئة ماء، وكذلك الذنوب. في هذا الحديث: الرفق في إنكار المنكر، وتعليم الجاهل. وفي رواية ابن ماجة: فقال الأعرابي بعد أن فقه: بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يؤنب ولم يسب، فقال: «إن هذا المسجد لا يبال فيه، وإنما بني لذكر الله، والصلاة فيه». وفي الحديث أيضا: نجاسة بول الآدمي، ووجوب تنزيه المسجد، وأنه يكتفي في ذلك بصب الماء عليها من غير تحجير.________________________________________
عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا». متفق عليه.
----------------
اليسر: ضد العسر. قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج (78)]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» والتعسير يوجب التنفير.________________________________________
عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يحرم الرفق، يحرم الخير كله». رواه مسلم.
----------------
فيه الحث على الرفق في جميع الأمور، قال الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران (159)].________________________________________
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني. قال: «لا تغضب»، فردد مرارا، قال: «لا تغضب». رواه البخاري.
----------------
الغضب: جماع الشر، وباب من مداخل الشيطان الثلاثة وهي: الغفلة، والشهوة، والغضب. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: قد أفلح من عصم من الهوى، والغضب، والطمع.________________________________________
عن أبي يعلى شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته». رواه مسلم.
----------------
معنى إحسان القتلة: أن لا يقصد التعذيب للمقتول وإحسان الذبحة أن يرفق بالبهيمة عند الذبح. قال الإمام أحمد: ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها، وتعرف أنها تموت.________________________________________
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى. متفق عليه.
----------------
في هذا الحديث: استحباب الأخذ بالأيسر في أمور الدين والدنيا إذا لم يكن فيه معصية. وفيه: استحباب ترك الانتقام للنفس كما في الحديث: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا». وفيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الحلم والصبر والقيام بالحق، والصلابة في الدين. وهذا هو الخلق الحسن قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم (4)].________________________________________
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب، هين، لين، سهل». رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن).
----------------
في هذا الحديث: استحباب ملاطفة الناس، وتسهيل الجانب لهم وقضاء حوائجهم. وفي الحديث الآخر: «إنكم لا تسعون الناس بأرزاقكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق».________________________________________